الوشم الليبي ... منذ أقدم العصور ..
سعاد أحمد أبو برنوسة
إن كل الوحدات الوشمية
التي استعملها الليبيون منذ أربعة آلاف سنة مضت،
لا زالت تستعمل حتى الآن
مـقــد مـة
لم يكن الوشم الذي يُعَلِّمُ به الليبيون أيديهم وصدورهم ووجوههم في يوم من الايام لوناً من اللهو والعــبث او حتى لمجرد الزينة، وانما كان يحتل مكانة قدسية او رتبة اجتماعية لديهم، حيث تعود ظاهرة الوشم أو مايسمى (تيكلمباس بالامازيغية) الى ذلك التاريخ الموغل في القِدَم عندما كان الناس يعيشون حياة بدائية يقدسون فيها بعض مظاهر الطبيعة، خلالها برزت ظاهرة الوشم فى ما يسمى المجتمعات الطوطمية التى تتألف من قبائل وعشائر صغيرة، لكل منها طوطمها الخاص، الذي ترتبط به وتتخذه رمزاً لها، وكان الدم والشعـــر من أكثر عناصر الجسد الإنساني، استخداماً فى إنجاز الطقوس والشعائر الدينية عند هذه العشائر وعلى هذا الاساس: فإنه حينما كانت تطبع صورة الطوطم على جسم الانسان المراد امتزاجه (حلوله) بطوطمه كان لابد من تسـيـيـل الدم لكي يمتزج به امتزاجاً مادياً ومعنويا ومن هنا نشأت عادة الوشم في أول أمرها.
طقوس متعلقة بالواشمات
كان إنجاز الوشم جزءٌ من طقوس الكهانة، تقوم به إمرأة كاهنة، ولقد أشار د. الخطيبي في مقالة عن سيمياء الوشم في شمال إفريقيا، إلى (أن الواشمة (المرأة الي تقوم بإنجاز الوشم) – في بلاد المغرب الأقصى – عادة تخضع لطقوس تكريس عند ضريح ولي متخصص- حيث ترى في منامها هناك بأنها تستلم إبرة الوشم.
وفي جبل نفوسة هناك طقس مشابه ولكن في مجال النسيج، حيث يوجد إلى وقتنا هذا، ضريح وليّـة (نــانَّــا كللايــا) – أي جدة الرقم النسيجي – في قرية تموقطت؛ حيث تمضي الفتيات الراغبات في تعلم رقم النسيج (كلللا) ليلة عند الضريح المذكور حتى يتم تكريسهن كمحترفات لهذا العمل الفني الدقيق.
الوشم إمتداد لطقس قديمة
لقد أستعمل الليبيون الوشم على أجسادهم منذ زمن قد يعود الى العصر الحجرى الحديث؛ سبعة آلاف سنة مضت، ومن الملفت للنظر أن بعضأ من مواضيع للوحات الصخرية في تاسيلي وأكاكوس – مثل رسم الجمل- (صور رقم 1 / أ) لا زالت تستعمل كوحدات زخرفية للوشم حتى الآن (صورة رقم 1 / ب) وكذلك تستعمل الوشوم أبجدية ال ( تيفيناغ ) ( 24 ) حرفاً (صورة رقم 2 / ب ) وهى حروف مشتقة عن الكتابة الليبية القديمة، ظهرت مع مرحلة الجمل في تاريخ الفن الصخري (صورة رقم 2 / أ ) ، والادلة مشتركة بين ال ( تيفيناغ ) والوشم في الشمال الأفريقي، كما توجد ايضاً آدلة مشتركة بين الوشم ووسم الحيوانات.
الوشم في العصور الكلاسيكية
أما في العصور الكلاسيكية فإن أشهر الشوهد التاريخية على الوشم الليبي هي صور زعماء قبائل أمازيغية (ليـبـيـة) كما رسمتهم ريشة فنان مصري بالدهان في تل العمارنة على ضريح (سيتي الأول) من الأسرة التاسعة عشرة ، (صورة رقم 3 / أ ) وبلاط مدينة هبو على ضفاف النيل. ويدل رسم الأمير الليبي الموجود في تل العمارنة على أنه كان رئيساً كبيراً لأنه يتحلى بريشتين. ونلاحظ على الكتف الأيمن لهذا الرئيس رسماً من طراز بسيط هو عبارة عن خط مزدوج مموج تليه أربع نقط . وعلى صدره وبطنه ستة معينات فى صف عمودي ، تليها أدنى منها أربعة أخرى. وهذا الوشم يختلف قليلاً عما كان مألوفاً عند الليبيين عامة.
ولقد دل فحص صور الرؤساء التمحو الأربعة ، الموجودة على ضريح سيتي الأول (صورة رقم 3 / ب) على وجود علامات سوداء على أذرعهم وسيقانهم.
ولقد لاحظنا من خلال المسح الإثنوجرافي لعادات الوشم الليبي الذي أجريناه في سنة (1988) أن كل الوحدات الوشمية التي استعملها الليبيون – المصورة في نقوش الفراعنة – منذ أربعة آلاف سنة مضت، لا زالت تستعمل حتى الآن.
ويرجح أوريك بيتس أن الزعماء الليبيين فقط الذين كانوا يستعملون الوشم وأن رجال الأسر الحاكمة دون نسائها هم الذين كانوا يستعملونه، ثم يشير إلى أن استعمال الوشم عند الليبيين القدماء كان مناظراً لما ذكره هيرودوتس عن بعض القبائل التراكية (Tracians) التى كانت تستخدم الوشم كعلامة مميزة تشهد أن صاحبها ولد من أصل نبيل ، كما أن عدم وجود الوشم كان دليلاً على انحطاط الأصل.
وذكر المؤرخون القدامى اليونانيون والرومان عادات الوشم عند الليبين . وأنتبه عدد من المؤرخين المعاصرين الى هذه الظاهرة القديمة في ليبيا ومنهم ( بيتس – فابرى – راندال ).
أغرض الوشم
ولكن ومما لاشك فيه أن الكاهن أو الكاهنة كانت تقوم بإنجاز الوشم في قديم الزمان و كان يوضع لأغراض دينية وطبـــية بالدرجة الأولى؛ وذلك للحماية والأمن وتحفيز الخصوبة ( إتقاءً لنقمة الآلهة والحصول على نعمتها ) وكان يستخدم منذ القدم لتحديد المركز الاجتماعى والهوية القبلية . وهناك نوع من الوشم السِّري الذى يُـــنجز بقرب الأعضاءالتناسلية وهو صعب الإدراك نــاهيك عن استحالة رصده وتوثيقه فذلك من المحرمات الإجتماعية القديمة.
ويستخدم الوشم بالاضافة الى الزينة والطب كوسيلة لتحديد المركز الاجتماعى للفتاة ، حيث لاتضعه إلا الفتاة المؤهلة للزواج وكذلك لتحديد هُـــوية قبيلتها- كما تستعمل الزخارف النسيجية أيضاً لنفس الغرض.
ويستعمل الوشم كعلاج لبعض الامراض وخصوصا للأمراض التى تصيب العضام كما كان سائــدا أيضا ( الحجيم ) والكى بالنار لعلاج بعض الأمراض العضوية وكذلك الروحانية وحتى لايتشوه جلد المريض يضطر المداوي إلى استعمال بعض الأعشاب الطبــية ويرش الجروح والحروق بالكحل فتتحول بعدئدٍ الى وشمة ثابتة وذلك حفاظاً على جمال جسد المريض وعدم تشويهه.
ويستعمل الرجال الوشم فى كثير من المناطق في ليبيا؛ ولهم في ذلك نقوش خاصة من باب التباهى والمفاخرة، يضعونها فى أماكن محددة من أجسامهم، فهى توضع غالباً إما على الساعدين أو على الذراعين.
وكانت الأوشام تستعمل أيضاً للتعريف بالمجاهدين خلال الحروب مع الطليان – فكان ينقش إسم المجاهد وإسم قبيلته.
ومازال البعض يستعملها خصوصاً في المناطق الشرقية عند زيارتهم لحج بيت الله الحرام – أو لكتابة بيت شعر شعبي أوحكمة أعجبته. و يستعمل الوشم بشكل رمزي للــرهان بين شخصين حيث يقول أحدهم (لو حصل كذا دق لي وشمة). ويقول مثل آخــر (فوٍّت علي الموشمة) مما يدل على أن المرأة التى تقوم بالتوشيم هى أمرأة تتمتع بالدهاء والفطنة.
طريقة الوشم
يتم الوشم في العصور التأخرة- بإحداث جرح بسيط دقيق بالإبرة على الشكل المطلوب حسب النماذج السائدة، وفي المكان المرغوب توشيمه، ثم يوضع فوقه مسحوق الكحل وبعد مدة يلتئم الجرح ويصبح بلون أخضر. أما إذا أريد أن يكون لونه أزرق فيستعمل صبغة النيلة.
إزالة الوشم
ومن المعروف أن الوشم كان إلى عهد قريب محرماً في مدينة طرابلس وجبل نفوسة وذلك بسبب كونه مكروه في الإسلام. يتم إزالة هذا الوشم في جبل نفوسة؛ بحك المنطقة الموشمة بأوراق نبتة برّية تشبه وريقات الجزر تسمى بالأمازيغية: (تقاتــوست ني ايجيمان ) وتسبب التهاب جلدى مؤقت يشبه الحروق يزول مع الأيام – كذلك الجير غير المطفاء للوشم الجديد.
يستعمل الوشم في الجبل النساء فقط، ويعتبر محرما بالنسبة للرجال وعيب كبير، وتعتبر السنة العاشرة تقريبا العمر الذى يتم فيه توشيم البنات وتستمر الفتيات في ذلك حتى بعد الزواج الى فترة أواخر الأربعينات.
والنساء المحترفات في عمليات التوشيم عادة يكن من مناطق معينة مثل مزدة، المحاميد والنوايل ويتم إحضارهن من تلك المناطق البعيدة ليقمن بتوشيم بنات القرى الجبلية.
شعائر التكفير
وعندما تبلغ المرأة سن الكهولة تبدأ في شعائر التكفير عما سبق من الذنوب، عادة تصوم شهرين متتالين؛ كعرف متفق عليه بشكل جماعى تقوم المرأة المتوشمة فى تلك الفتــرة بإعطاء صدقات عن كل وشم وتكون الصدقة على هيئة مصوغات من الذهب أو الفضة ( فجرة ) أو نقود بشرط أن يكون حجم القطعة الذهبية أو الفضية أو النقدية سواء كانت معدنية أو ورقية – يعطى شكل الوشم تماما. كذلك تعطى الصدقات عن وشم الرسغ أو بطن الدراع على هيئة حبوب توضع في إناء عميق وتقاس كمية الحبوب بان توضع اليد مفرودة الاصابع في الإناء ويكون مستوى الوشم علامة القياس ويشترط أن تتجاوز كمية الحبوب مستوى الوشم . وتسمى هذه الشعائر كفـّــارة الندم ولعل ذلك يعود للخوف من لعنة الله التى ذكرها الحديث النبوي ( لعن الله النامصة والمـتـنـمصة والواشرة والمستوشرة والواشمة والمستوشمة).
وأخيراً يهمنا أن نؤكد الإشارة هنا إلى أننا لا نسعى إلى تشجيع إعادة إحياء تقاليد الوشم ، بل نعـتـقـــد أن البحث فى هذا المجال كالبحث فى الحكاية الشعبية والعمارة والنسيج؛ من الممكن أن يضع بين أيدينا مزيداً من الشواهد الإنسانية التي تساعدنا على تحليل وتأويل ثراثنا الليبي البصري مثل الأيقونات الصخرية المقدسة في تاسيلي وتادرارت أكاكوس ومسّاك زطفـــت – فحري بنا إذن أن نسجل وندرس ونحتفظ بهذا اللون من الثراث، نظراً لقيمته التاريخية.