سارعوا قبل أن تُغلق الأبواب:
إننا مدينون لأمهاتنا، ولن نذوق طعم السعادة في حياتنا؛
إلا حينما ننْحَني لنقّبلَ يَديها، ونسكب دُموعَ خُضوعنا على خديها،
ونستجدي نظراتِ الرضا من عينيها.
فقط؛ حينها نشعر بالسعادة والرضا، ويكون التوفيق
والنجاح، وندخل جنة الفلاح والارتياح، تنجلي همومنا،
تنفرج كروبنا، تزول أتراحنا،
فهل بعد هذا أحد يلومنا، إذا تأسينا أو حزنّا على أمهاتنا؟!
وأي عاقل لا يبكي وقد أغلق عنه بابان:
باب من أبواب الجنة، وباب من أبواب الجهاد؟!.
فلَّما مَاتَتْ أَمُّ الْقَاضِيْ إِيَاسٍ بَكَى، فَقِيْلَ: مَا يُبْكِيْكَ يَا أَبَا وَاثِلَةَ؟
قَالَ: كَانَ لِي بَابَانِ مَفْتُوْحَانِ مِنَ الْجَنَّةِ فَأُغْلِقَ أَحَدُهُمَا.
وأما باب الجهاد فقد رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ:
أَتَى رَجُلٌ الْنَّبِي-صلى الله عليه وسلم-
فَقَالَ: إِنِّي أَشْتَهِي الْجِهَادَ، وَإِنِّي لَا أَقْدِرُ عَلَيْهِ. قَالَ:
"هَلْ بَقِيَ أَحَدٌ مِنَ وَالِدَيْكَ؟"،
قَالَ: أُمِّي، قَالَ "فَأَبْلِ اللهَ عُذْرَاً فِيْ بِرِّهَا؛ فَإِنَّكِ إِذَا فَعَلْتَ
ذَلِكَ فَأَنْتَ حَاجٌّ وَمُعْتَمِرٌ وَمُجَاهِدٌ إِذَا رَضِيَتْ عَنْكَ أُمُّكَ،
فَاتَّقِ اللهَ فِيْ بِرِّهَا" رواه الطبرانيُ وحسَّنَهُ الْعِرَاقِي.
فاتقوا الله يا شباب، اتقوا الله يا فتيات، اتقوا الله
في أمهاتكم وآبائكم، وعجلوا قبل أن تحين لحظات
الفراق، تمرغوا في سعادة البر والصلة لهما، والخدمة
لهما، إنها سعادة الدنيا والله، إنها بوابة الجنة، فلا تفوتكم عباد الله.
كَانَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ بِرَّ الْأُمِّ أَفْضَلُ
الْأَعْمَالِ، وَقَالَ: "إنِّيْ لَا أَعْلَمُ عَمَلَاً أَقْرَب إِلَى الله -عَزَّ
وَجَلَّ- مِنْ بِرِّ الْوَالِدَةِ". وَهُوَ مَذْهَبُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْسَّلَفِ.
وَقَالَ ابْنُ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- لِرَجُلٍ عِنْدَهُ أُمُّهُ:
"وَالله لَوْ أَلنْتَ لَهَا الْكَلَامَ، وَأَطْعَمْتَهَا الْطَّعَامَ، لَتَدْخُلنَّ الْجَنَّةَ
مَا اجْتَنَبْتَ الْكَبَائِرَ". وقال الإمام أحمد: "بر الوالدين
كفارة الكبائر". فآهٍ للموت! كيف أغلق وأوصد أبواب الخير هذه؟!
والله! لو كان يقبل فديةً لفديت أمي بنفسي وروحي، فآهٍ!
ما أضعف الإنسان! ما أوهن حبله! ما أشد غفلته عن النعم التي يتقلب فيها!.
والله! وجود الأبوين أو أحدهما نعمة من أعظم النعم عند
العبد، نعمة من أعظم النعم يا شباب، نعمة من أعظم النعم
يا فتيات، نعمة وجود الوالدين نعمة عظيمة، كم من النعم
لا ندرك قدرها إلا عند فقدها! فاسمعوها يا شباب،
وسارعوا قبل أن تُغلق الأبواب.
إن القلب ليحزن، وإن العين لتدمع، ولا نقول إلا ما يُرضي
ربنا، وإنا على الفراق لمحزونون، فإنا لله وإنا إليه راجعون.
فالحمد لله على جنة الرضا، الحمد لله على نعمة الإيمان،
الحمد لله على نعمة اليقين والصبر، والحمد لله على نعمة
الإيمان التي تجري بعروق الإنسان، لتمتص الآلام والأحزان.
فالحمد لله، ورضينا بقضاء الله خيره وشره، وحلوه ومره،
فـ "مَا مِنْ عَبْدٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ، اللَّهُمَّ أْجُرْنِي فِي مُصِيبَتِي، وَأَخْلِفْ لِي خَيْرًا مِنْهَا،
إِلَّا آجَرَهُ اللَّهُ فِي مُصِيبَتِهِ، وَأَخْلَفَ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا".
فاللَّهُمَّ أْجُرْنَا فِي مُصِيبَتنا وَأَخْلِفْ لنا خَيْرًا مِنْهَا!
ويقول صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أَنْفُهُ! ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ!
ثُمَّ رَغِمَ أَنْفُهُ!". قِيلَ: مَنْ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "مَنْ أَدْرَكَ
وَالِدَيْهِ عِنْدَ الْكِبَرِ أَحَدَهُمَا أَوْ كِلَيْهِمَا ثُمَّ لَمْ يَدْخُلْ الْجَنَّةَ"
رواه مسلم وأحمد.
كيف لا أحب أمي ، وأحب أبي ، كيف لا تحبون أمهاتكم
أو آباءكم ونحن نقرأ ويتكرر على مسمعنا قول الله:
(وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ
عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ
وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ
الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)
[الإسراء:24]. رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا .
وأخيرًا عباد الله: فالموت ليست نهاية البر، كم ولد صالح
زاد حبه وتضاعف بره بأبويه بعد الموت، وكأنه يقول
للموت: لن تُغلق الباب، وسأزداد من الأجر والثواب!.
فبعد الموت تبدأ قصة أخرى مع البر والصلة للأبوين؛
فقد رُوي عَنْ أَبِي أُسَيْدٍ مَالِكِ بْنِ رَبِيعَةَ قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ
النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ مِنْ بَنِي سَلَمَةَ
فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبَقِيَ مِنْ بِرِّ أَبَوَيَّ شَيْءٌ أبرُّهُمَا بِهِ
مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا؟
قَالَ: "نَعَمْ، الصَّلَاةُ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِيفَاءٌ
بِعُهُودِهِمَا مِنْ بَعْدِ مَوْتِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ
الَّتِي لَا تُوصَلُ إِلَّا بِهِمَا".
وروى مالك في الموطأ وابن ماجة والبخاري في الأدب
المفرد بسند حسنه الألباني عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ:
"تُرْفَعُ لِلْمَيِّتِ بَعْدَ مَوْتِهِ دَرَجَتُهُ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ، أَيُّ شَيْءٍ
هَذِهِ؟ فَيُقَالُ: وَلَدُكَ اسْتَغْفَرَ لَكَ". فاللهم نستغفرك لآبائنا
وأمهاتنا، اللهم ارزقنا بر آبائنا وأمهاتنا أحياءً وأمواتًا.
أعتذر إخوة الإيمان؛ إنها أشجان ودروس الزمان، ليتذكر
الغافل وينشط اليقظان، (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى* وَيَتَجَنَّبُهَا
الْأَشْقَى) [الأعلى:10-11].
إنها عبر وعظات للباقين.
اللهم ارحم آباءنا وأمهاتنا،
اللهم من كان منهم حياً فأطل عمره، وأصلح عمله،
وارزقه الصحة والعافية،
ومن كان منهم ميتاً فاغفر له وارحمه،
وتولَّهُ برعايتك وعنايتك،
فأنت مولاهم،
وأنت الرحيم.